رسالة مفتوحة إلى سيد البيت الأبيض

تابعنا على:   09:43 2023-01-30

محمد المحسن

أمد/ لعلي لا أبالغ إذا قلت انّ ـ بلادكم ـ قد بلغت حدّا من الغرور تصوّرت معه أنّها ملكت مفتاح الحقيقة المطلقة،ولم تعد بحاجة إلي الجديد أو التجديد، نسيت تماما ونهائيا أنّ ما تملكه ليس أكثر من إحدي جزئيات الحقيقة،وأنّ الحقيقة الكلية المطلقة ليست بمتناول أحد أو بلد أو حقبة من التاريخ، ولكنّها قدّست الحقيقة الجزئية النسبية وحوّلتها إلي فكرة جنونية.

لقد كانت ـ ولاياتكم المتحدة ـ في بداية الستينيات تمثّل أقوي دولة في العالم وفي التاريخ،رمزا ديناميكيا للحرية والديمقراطية..

واليوم..صارت هيبتها تتلقّي الصفعات من كلّ جانب وأضحت رمزا للإمبريالية والاستعمار الجديد، مما أضاف أزمة أخلاقية عميقة داخل الضمير الأمريكي العام.

لقد كان جونسون ـ مثلكم ـ مصابا بجنون العظمة، واقتنع بأنّه أقوي رجل في العالم،وأنّه يستطيع شراء فيتنام كما اشتري مساعديه في واشنطن، باعتبار الدولار سيّد الأحكام هناك..لا في كل مكان..

وّكان نيكسون أكبر مدلّس في تاريخ الرئاسة الأمريكية وكانت ووترغيت عنوانا كبيرا للانحطاط..

هل تقرؤون التاريخ لتتعلّموا من خبرات الذين سبقوكم..ولتعتبروا بتجاربهم وأخطائهم إذا كنتم فعلا تحبّون الحياة وتعتقدون بأنّكم تستحقون هذه الحياة؟

يا سيد البيت الأبيض : إنّ فكرة أمريكا فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة عبر الاجتياح المسلّح وبمبرّرات غير طبيعية هي محور فكرة إسرائيل التاريخية. وإنّ عملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة ـ بشخصيات أبطالها: الإسرائيليين،الشعب المختار، العرق المتفوّق. وضحاياها : الكنعانيين الملعونين،المتوحشين البرابرة. ومسرحها : أرض كنعان، واسرائيل. ومبرّراتها : الحق السماوي أو الحضاري.وأهدافها : الإستيلاء علي أرض الغير واقتلاعه جسديا وثقافيا من فكرة اسرائيل التاريخية.

هذا الإعتقاد بأنّ هناك قدرا خاصا بأمريكا وأنّ الأمريكيين هم الإسرائيليون الجدد و الشعب المختار الجديد يضرب جذورا عميقة في الذاكرة الأمريكية، وما زال صداه يتردّد في اللغة العلمانية الحديثة أو ما صار يُعرَف بالدّين المدني religion civile إنّه اعتقاد يتجلّي بوضوح في معظم المناسبات الوطنية والدينية وفي كل خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون مفاده أنّ الله القدر،حتمية التاريخ...إلخ اختار الأمّة الأمريكية (الأنكلوساكسونية المتفوقة) وأعطاها دور المخلّص (الذي يعني حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان المجاهل).

أذكّركم بالحكمة المتعبة التي تقول من يزرع سوف يحصد. ومن هنا ينبغي أن يعرف أفراد شعبكم أنّهم ليسوا موضوع الكراهية،بل سياسات حكومتكم،ولا يُعقَل أنّهم يرتابون في أنّهم أنفسهم ـ بموسيقييهم الرائعين، بكتّابهم، بممثليهم،برياضييهم المدهشين وسينماهم ـ موضع ترحاب في العالم بأسره..

جميعنا تأثرنا بشجاعة ورشاقة عمّال المطافئ ورجال الإنقاذ وموظفي المكاتب العادية في الأيّام التي تلت ـ أحداث مانهاتن ـ ولكن من المؤسف أنّه بدل استخدام الحدث كفرصة لمحاولة فهم يوم 11 أيلول/سبتمبر،استخدمتم الفرصة لإغتصاب أسى العالم،لكي تمارسوا وحدكم الحداد والإنتقام..

أيّها الرئيس : ها نحن في لبّ المسألة،استيحاء التمييز بين الحضارة و الوحشية بين ذبح النّاس الأبرياء أو، إذا شئتم صدام الحضارات و الضرر المجاور أمام تعقيد العدالة اللامحدودة وجبرها الحرون.

كم نحتاج من الموتي العراقيين قبل أن يصبح العالم مكانا أفضل؟

كم نحتاج من الموتي الأفغان مقابل كل قتيل أمريكي؟

كم من القتلي الأطفال والنساء الفلسطينيين مقابل كل قتيل إسرائيلي؟

كم من القتلي المجاهدين مقابل استثمار مصرفي نهم؟ النّاس ليسوا من حجر،ولا هم أغبياء، إنّهم يرون استقلالهم مُصادرا،وثرواتهم وأرضهم وحياة أبنائهم مستلبة،وأصابع الاتهام التي يرفعونها تتوجّه إلي الشمال : إلي المواطن الكبري للنهب والإمتياز.

ولا مناص للترهيب من أن يستولد الترهيب..

يا-سيد البيت الأبيض-: الفقر والأوبئة العابرة للقارات والتلوّث والإرهاب والجريمة المنظمة وغيرها من التهديدات التي أفرزتها سياسة أمريكية منفلتة من العقال،أوصلت العالم إلى شفير الهاوية، والإمبريالية اليوم تعيد تأهيل نفسها،والقوّات الأمريكية تعمل انطلاقا من قواعد في خمسين بلدا"هيمنة مطلقة النطاق" يقول الهدف الأمريكي المعلن بوضوح!!..

و لكن ما علاقة هذا كلّه بالفضائع التي شهدتها -بلادكم-ذات ثلاثاء أسود-من سنة 2001 ..؟!إذا زرتم أيّا من أرجاء الإنسانية الفقيرة المعذّبة،فستفهمون أنّ للأمر علاقة،كلّ العلاقة..النّاس ليسوا من حجر،ولا هم أغبياء.إنّهم يرون إستقلالهم مصادرا،وثرواتهم وأرضهم وحياة أبنائهم مستلبة،وأصابع الإتهام التي يرفعونها تتوجّه إلى الشمال:إلى المواطن الكبرى للنهب والإمتياز.ولا مناص من الترهيب أن يستولد الترهيب.

ولكن..هل تعلم ..كم صبر المقهورون..!؟.. لا أنتظر جوابا..

يا-أيّها الرئيس : سنوات موجعة من الحيوات المدمّرة بأشكال عديدة..سنوات رهيبة من التدمير الجهنمي لأماكن من كابول إلىبغداد.. حيث لا شيء يُذكَر قد أُعيد بناؤه.

كل هذا حصل لنا من رئيس-دموي- غادر البيت الأبيض قبل تربعك-يا سيد بايدن- على عرش الولايات المتحدة الأمريكية دونما إعتذار،تاركا خلفه إرثا دمويا لا يُنسَى،بعد أن غطّت الغشاوة بصره.

سأضيف ثانية: إنّ الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة ضد أفغانستان لن تحلّ مشكلة الإرهاب،ولن تدفع الغاضبين على السياسة الأمريكية إلى تغيير مواقفهم من تحالفها مع الإستبداد والإحتلال،بل ستضيف إلى لائحة المظالم الطويلة بنودا جديدة.فهذه الحرب المعلنة على الأشباح لن تصيب إلا الأبرياء.

إنّ تخريب الخراب الأفغاني هو ضرب من ضروب العبثية الدمويّة،فليس في وسع الطائرات الحربية أن تدفع الأشباح إلى الإستسلام،ومهما إزدادت -علب البسكويت-التي تلقيها الطائرات على القتلى،فإنّها لن تضف على القتل طابعا إنسانيا.فالموتى لا يأكلون البسكويت ولا الخبز.! كما أنّ تهديدكم لسوريا بشن حرب-قروسطية-عليها تحت ذريعة استخدام النظام السوري اسلحة كيماوية ضد ابناء شعبه في الغوطة الدمشقية سوف يؤدي في حال اشتعال فتيل هذه الحرب الى مقتل مئات وربما ملايين الاشخاص. لان ألسنة لهب هذه الحرب لن تتوقف عند حدود سورية.

لتعلم-يا سيادة الرئيس-أنّ أمريكا والغرب خاضا ثمانية حروب في دول عربية واسلامية على مدى الخمسة عشرعاما الماضية ربحتها جميعا، ولكنها انتصارات كلفتها اكثر من خمسة آلاف مليار دولار وما يقرب من سبعة آلاف من جنودها، بالاضافة الى سمعتها كدولة غازية معتدية. وما الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعيشه-ولاياتكم المتحدة- الا نتيجة لهذه الانتصارات-الزائفة-وهنا نتحفظ كثيرا على نظرية الضربات المحدودة هذه التي تروج كأحد خياراتكم واكثرها ترجيحا، مثلما نتحفظ على العناوين الانسانية لتبريرها، فجميع الحروب السابقة بدأت تحت الذرائع نفسها، وتطورت الى احتلالات او تغييرانظمة، ولنا في العراق وليبيا وافغانستان ثلاثة امثلة،وسورية لن تكوناستثناء.

في الختام، أقول لكم بأنّ الشعوب العربية وحدها تستطيع أن تتحدّث عن أمل ممكن أن ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت،المواجهة عندها تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا، وإنّما هي فعل وجود يصرخ أمام العالم بأنّ الإستعمار غير مقبول وبأنّ الحرية والسيادة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة الغزاة..